فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ فَنَقُولُ: مَنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَإِمَّا إنْ مَاتَ عَنْ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يَأْثَمُ بِلَا خِلَافٍ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى التَّرَاخِي، فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ يَضِيقُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ فِي وَقْتٍ يَحْتَمِلُ الْحَجَّ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَ قَادِرًا، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ عَجْزًا مُقَرَّرًا، وَيُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَفْوِيتِهِ الْفَرْضَ عَنْ وَقْتِهِ مَعَ إمْكَانِ الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَأْثَمُ لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُلْزِمَ الْوَارِثَ الْحَجَّ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهَذَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْعُشْرِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَإِنْ أَحَبَّ الْوَارِثُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ ذَلِكَ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- كَذَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا فَقَالَ: نَعَمْ» فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ الرَّجُلِ عَنْ أُمِّهِ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا مَاتَتْ عَنْ وَصِيَّةٍ أَوْ لَا عَنْ وَصِيَّةٍ.
وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ.
وَأَمَّا قِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِجْزَاءِ فَلِأَنَّ الْحَجَّ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَيِّتِ قَطْعًا، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ قَطْعًا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلسُّقُوطِ قَطْعًا، وَالْمُوجِبُ لِسُقُوطِ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الْعَمَلِ لَا عِلْمَ الشَّهَادَةِ؛ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الثُّبُوتِ وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا لَكِنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ يُعْتَبَرُ فِي عِلْمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْتَبَرُ فِي عِلْمِ الْعَمَلِ فَعَلَّقَ الْإِجْزَاءَ وَالسُّقُوطَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى احْتِرَازًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ- وَلَهُ مَالٌ- أَنَّهُ يَأْمُرُ وَارِثَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا لَكِنْ أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِهِ؛ لِاحْتِمَالِ الْعَدَمِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ هَلَّا أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِكُلِّ مَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّكَ أَبْعَدْت فِي الْقِيَاسِ إذْ لَا كُلَّ خَبَرٍ يُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ، وَمَحَلُّ سُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ هَذَا، فَإِنْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ مِنْهُ فِي مِثْلِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَذَلِكَ لِوُجُودِ النِّيَّةِ مِنْهُ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ فَتَقَعُ الْغُنْيَةُ عَنْ الْإِفْصَاحِ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَصِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْهُ.
وَيَجِبُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ قَدْ صَحَّتْ.
وَإِذَا حُجَّ عَنْهُ يَجُوزُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ.
وَهِيَ نِيَّةُ الْحَجِّ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَجُّ بِمَالِ الْمُوصِي أَوْ بِأَكْثَرِهِ إلَّا تَطَوُّعًا، وَأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ سَوَاءٌ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، أَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَمَّا إذَا قَيَّدَ فَظَاهِرٌ.
وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُنَفَّذُ مِنْ الثُّلُثِ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عَلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ فَمُطْلَقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ:- رَحِمَهُ اللَّهُ- رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْهُ فِي خُرَاسَانِيٍّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِمَكَّةَ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَكِّيٍّ قَدِمَ الرَّيَّ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عَنْهُ حُجَّ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ قُرِنَ عَنْهُ مِنْ الرَّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يَصِحُّ- وَهُوَ الْقِرَانُ- مِنْ حَيْثُ مَاتَ هَذَا إذَا كَانَ ثُلُثُ الْمَالِ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ حُجَّ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ يُحَجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا.
وَكَذَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمَالٍ سَمَّى مَبْلَغَهُ إنْ كَانَ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ حُجَّ عَنْهُ، وَإِلَّا فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا عَلَى مَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُ الْمَالِ ثَمَنَ النَّسَمَةِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ، وَذَلِكَ فِي التَّصْحِيحِ لَا فِي الْإِبْطَالِ.
وَلَوْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ لَبَطَلَتْ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ لَصَحَّتْ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهَا، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ النَّسَمَةِ تَعَذَّرَ التَّصْحِيحُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَبَطَلَتْ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ أَقْرَبَ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِغَيْرِ الْحَجِّ حُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَدْرَ مَا قَطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ فِي سَفَرِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْحَجِّ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فَسَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ يُعْتَبَرُ لَكِنْ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ- وَهُوَ الثَّوَابُ- لَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ فَبَطَلَ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَكَلَامُنَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا.
وَلَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَأَقَامَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى دَارَتْ السَّنَةُ ثُمَّ مَاتَ وَقَدْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ ذَلِكَ السَّفَرَ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ عَمَلُ الْحَجَّةِ الَّتِي سَافَرَ لَهَا فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَنْ الْحَجِّ.
وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ إلَّا مَاشِيًا فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا أَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ بِهِ وَلَكِنْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ، وَإِنْ أَحَجُّوا مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا جَازَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُوصِي بِالْحَجِّ إذَا اتَّسَعَتْ نَفَقَتُهُ لِلرُّكُوبِ فَأَحَجُّوا عَنْهُ مَاشِيًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا فَإِطْلَاقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَوْصَاهُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ أَحِجُّوا عَنِّي رَاكِبًا.
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَاشِيًا كَذَا هَذَا (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالرُّكُوبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِبَلَدِهِ، وَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُمَا جَمِيعًا، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ أَيُّهُمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ فَحُجَّ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعٍ يَبْلُغُ، وَفَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ وَتُبُيِّنَ أَنَّهُ كَانَ يَبْلُغُ مِنْ مَوْضِعٍ أَبْعَدَ مِنْهُ يَضْمَنُهُ الْوَصِيُّ وَيُحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ؛ لِأَنَّهُ تُبُيِّنَ أَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ زَادٍ أَوْ كِسْوَةٍ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا وَيَرُدُّ الْفَضْلَ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي وَطَنَانِ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْوَطَنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِيَقِينٍ وَفِي دُخُولِ الْأَبْعَدِ شَكٌّ فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَجَبَ الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ إذَا أَحَجَّ الْوَصِيُّ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ يَكُونُ ضَامِنًا وَيَكُونُ الْحَجُّ لَهُ وَيَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي أَحَجَّ عَنْهُ قَرِيبًا إلَى وَطَنِهِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَيْهِ وَيَرْجِعُ إلَى الْوَطَنِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا، وَيَكُونُ كَاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ.
وَلَوْ مَاتَ فِي مَحَلَّةٍ فَأَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى جَازَ كَذَا هَذَا.
فَإِنْ قَالَ الْمُوصِي أَحِجُّوا عَنَى بِثُلُثِ مَالِي، وَثُلُثُ مَالِهِ يَبْلُغُ حِجَجًا حُجَّ عَنْهُ حِجَجًا كَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَثُلُثُ مَالِهِ، يَبْلُغُ حِجَجًا يُحَجُّ عَنْهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ وَطَنِهِ- وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ- إلَّا إذَا أَوْصَى أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ فَيُحَجُّ عَنْهُ حِجَجًا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَثْبَتُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَبِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هَذَا السَّهْمِ، ثُمَّ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ الْحِجَجَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْجِيلُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّعْجِيلُ فِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّأْخِيرِ.
وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي بُيِّنَ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بَعُدَ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْإِحْجَاجَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِأَمْرِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ أَمْرِهِ.
وَمَا فَضَلَ فِي يَدِ الْحَاجَّ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ النَّفَقَةِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا فَضَلَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْحَاجِّ بِالْإِحْجَاجِ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ إنَّمَا يَمْلِكُ، بِالِاسْتِئْجَارِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَكَانَ الْفَاضِلُ مِلْكَ الْوَرَثَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِمْ.
وَلَوْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَعَزَلَ قَدْرَ نَفَقَةِ الْحَجِّ وَدَفَعَ بَقِيَّةَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ فَهَلَكَ الْمَعْزُولُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ أَوْ فِي يَدِ الْحَاجِّ قَبْلَ الْحَجِّ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَلَكَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَيُحَجُّ لَهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ الْبَاقِي حَتَّى يَحْصُلَ الْحَجُّ أَوْ يَنْوِيَ الْمَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ، وَقِسْمَةُ الْوَصِيِّ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ قَاسَمَ مَعَ الْوَرَثَةِ وَعَزَلَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ يَهْلِكُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْبَاقِي كَذَلِكَ الْحَجُّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ شَيْءٌ يُحَجُّ عَنْهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ ثُلُثِهِ شَيْءٌ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ جَائِزَةٌ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَعْزُولِ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ الْمَعْزُولِ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ ذَلِكَ الْمَالُ، وَلَكِنْ مَاتَ الْمُجَهَّزُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةِ فَمَا أَنْفَقَ الْمُجَهَّزُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ نَفَقَةُ مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَى الْخِلَافِ بَلْ عَلَى الْوِفَاقِ، وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُجَهَّزِ الْقِيَاسُ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَالِ الْمُوصِي، فَيَعْزِلُ ثُلُثَ مَالِهِ وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ وَطَنِهِ- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحُجُّ بِالْبَاقِي مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا.

.(فَصْلٌ): نَذْرُ الْحَجِّ:

ثُمَّ الْحَجُّ كَمَا هُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً عَلَى مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ- وَهُوَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ- فَقَدْ يَجِبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ بِنَاؤُهُ عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ النَّذْرُ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ لِأَنَّ النَّذْرَ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ حَجَّةٌ فَهَذَا.
وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إحْرَامٌ: أَوْ قَالَ عَلَيَّ إحْرَامٌ صَحَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ جَازَ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَلَوْ قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَلَوْ قَالَ: إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْخُرُوجُ أَوْ السَّفَرُ أَوْ الْإِتْيَانُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ، فَإِنَّهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هاهنا بَعْضَ مَا يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ.
فَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَوْ عَلَيَّ هَدْيٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً، وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِقَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّاةُ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فلابد وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَدْيِ مَا لَا يَكُونُ مُسْتَيْسَرًا- وَهُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ- وَقَدْ رَوَيْنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ أَدْنَاهُ شَاةٌ»، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ أَدْنَى الْهَدْيِ كَانَ أَعْلَاهُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ضَرُورَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى، أَيْ: يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْغَنَمِ كَمَا يُوجَدُ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَجُوزُ سُبْعُ الْبَدَنَةِ عَنْ الشَّاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ».
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ فَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزُورُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَدَنَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْجَمَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أَيْ: قَائِمَةً مُصْطَفَّةً، وَالْإِبِلُ هِيَ الَّتِي تُنْحَرُ كَذَلِكَ.
فَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ مُضْجَعَةً وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ».
حَتَّى قَالَ جَابِرٌ «نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ مَيَّزَ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ» فَدَلَّ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ.
(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ) وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: إنَّ رَجُلًا صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَنَةً أَفَتَجْزِيهِ الْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ مِنْ بَنِي رَبَاحٍ فَقَالَ مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ، إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَإِنَّمَا وَهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ.
وَلَوْ لَمْ يَقَعْ اسْمُ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى وَلَمَا سَأَلَهُ، فَقَدْ أَوْقَعَ الِاسْمَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى النَّاذِرِ الْإِبِلَ؛ لِإِرَادَتِهِ ذَلِكَ ظَاهِرًا؛ وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْبَدَانَةِ- وَهِيَ الضَّخَامَةُ- وَأَنَّهَا تُوجَدُ فِيهِمَا، وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الْجَوَازِ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَوَازَ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْإِبِلِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ فِي الْحَدِيثِ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ مَا خَرَجَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَلْ عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، وَكَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَهْلُ قَرْيَةِ كَذَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ إنْ أُوِّلَ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى وَلَا حُجَّةَ مَعَ التَّعَارُضِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى الْإِبِلِ.
وَيَجُوزُ إيجَابُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ.
وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى كَذَا وَكَذَا عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ.
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ مِنْ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سِوَى النَّعَمِ جَازَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ.
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُوفَةِ جَازَ.
وَأَمَّا فِي النَّعَمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إلَّا فِي الْحَرَمِ فَيَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَهُوَ الْأَفْضَلُ.
وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِ فُقَرَاءِ مَكَّةَ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الثِّيَابِ فِي عَيْنِهَا وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِهَا، وَالصَّدَقَةُ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ.
فَأَمَّا مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْهَدْيِ مِنْ النَّعَمِ فِي الْإِرَاقَةِ شَرْعًا، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرْعِ إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الْإِرَاقَةَ هاهنا فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} حَتَّى إذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءَ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ لَحْمًا صَارَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ فِي الصَّدَقَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ.
وَلَوْ جَعَلَ شَاةً هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ اعْتِبَارُ الْبَدَنَةِ بِالْأَمْرِ، ثُمَّ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الْغَنَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِيهِ كَذَا فِي النُّذُورِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ: إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَلَا يُوجَدْ فِي الْقِيمَةِ إلَّا أَحَدُهُمَا- وَهُوَ التَّصَدُّقُ- وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمِنًى، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (الْحَرَمُ كُلُّهُ مَنْحَرٌ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الْحَرَمُ.
وَأَمَّا الْبَدَنَةُ إذَا أَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يَنْحَرُهَا حَيْثُ شَاءَ إلَّا إذَا نَوَى أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ، فَلَا يَجُوزُ نَحْرُهَا إلَّا بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَرَى أَنْ يَنْحَرَ الْبُدْنَ بِمَكَّةَ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أَيْ، الْحَرَمِ (وَلَهُمَا) أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْبَدَنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِيَازِ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبَدَانَةِ- وَهِيَ الضَّخَامَةُ- يُقَالُ: بَدَنَ الرَّجُلُ، أَيْ ضَخُمَ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أَنَّ: تَعْظِيمَهَا اسْتِسْمَانُهَا، وَلَوْ أَوْجَبَ جُزْءًا فَهُوَ مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ.
وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ دَمَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، وَهَدْيَ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَلَا يَجُوزُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَيَجُوزُ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ.
وَأَدْنَى السِّنِّ الَّذِي يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا، وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا وَبَيَانُ مَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ.
وَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِظَهْرِهَا وَصُوفِهَا وَلَبَنِهَا إلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ مِنْ ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ: إلَى أَنْ تُقَلَّدَ وَتُهْدَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، أَيْ ثُمَّ مَحِلُّهَا إذَا قُلِّدَتْ وَأُهْدِيَتْ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ لِأَنَّهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا، فَالْقُرْبَةُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا فَإِذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الْقُرْبَةُ فِيهَا بِالْإِرَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْهَا وَيْحَكَ فَقَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْحَكَ» وَقِيلَ: وَيْحَكَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَوَيْلَكَ كَلِمَةُ تَهَدُّدٍ، فَقَدْ أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكُوبَ الْهَدْيِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ قَدْ أَجْهَدَهُ السَّيْرُ فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِبَدَلٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِبَدَلٍ، وَكَذَا فِي الْهَدَايَا إذَا رَكِبَهَا وَحَمَلَ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ يَضُمُّ مَا نَقَصَهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ وَيَنْضَحُ ضَرْعَهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا فَلَبَنُهَا يُؤْذِيهَا فَيُنْضَحُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ وَيَرْقَى لَبَنُهَا، وَمَا حُلِبَ قَبْلَ ذَلِكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْقُرْبَةِ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا إنَّهَا تُذْبَحُ وَيُذْبَحُ وَلَدُهَا كَذَا هَذَا، فَإِنْ عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا نَحَرَهُ، وَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ صَفْحَةَ سَنَامِهِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهُ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُطْعِمُ أَحَدًا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَاجِبًا، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فَإِذَا انْصَرَفَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا شَاءَ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَقَعْ عَنْ الْوَاجِبِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ؛ وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ قَدْ تَعَيَّنَتْ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَفْعَلُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ: «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ بَعَثَ هَدْيًا عَلَى يَدِ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَزْحَفَ مِنْهَا، أَيْ قَامَتْ مِنْ الْإِعْيَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مَا أَفْعَلُ بِمَا يَقُومُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَةَ سَنَامِهَا، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِك» وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ كَانَتْ فِي ذَبْحِهِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ كَانَتْ الْقُرْبَةُ فِي التَّصَدُّقِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَكَانَهُ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا».
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ دَمِ النَّذْرِ شَيْئًا.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ.
وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ دَمُ شُكْرٍ فَكَانَ نُسُكًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَدَمُ النَّذْرِ دَمُ صَدَقَةٍ وَكَذَا دَمُ الْكَفَّارَةِ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ.
وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ؛ لِوُجُودِ التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ فَكَانَ دَمُ صَدَقَةٍ، وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ لَمَا جَازَ أَكْلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ.
وَكَذَا لَوْ هَلَكَ الْمَذْبُوحُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْهَلَاكِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَبِالِاسْتِهْلَاكِ تَعَدَّى عَلَى حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ أَصْلِ مَالٍ وَاجِبِ التَّصَدُّقِ بِهِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ.
وَلَوْ بَاعَ اللَّحْمَ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَبِيعٌ وَاجِبٌ التَّصَدُّقُ بِهِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ فِي ثَمَنِهِ حَنِثَ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.